نتأرجح بين تقلبات وأهواء أنفسنا ونتهم بها الحياة، تارة نضحك ونفرح فنرى الجمال، وتارة نبكي ونحزن ونرى القبح، وكأننا قواربٌ تتمايل على أمواج بحرٍ هائج، ألا يمكن أن يكون ليس هناك شيئًا قبيحًا في الأساس، أم أن دموع أعيننا هي التي تُلون العالم بألوان الحزن كي نراه؟ وإن كانت الحياة هي المتقلبة لكان الناس أجمع سعداء أو حزناء، وإن كان كذلك ففي الحزن حتى الأرض ستحزن معنا من حزنها علينا؛ على ضيوفها.
إنما في الحياة نجد الفرح والغم، ونجد الأمل واليأس، ونجد الحب والكره…، وهكذا تستمر الحياة بهذا المزيج المُثير المتناغم، فاليوم في ضباب وغدًا في صفاء، فانتظر، ستتذوق كل شيء.
أحيانًا نجلس ونحن حَزانى، ولا نجد له سببًا في حاضرنا، ألا يمكن أن يكون السبب هو الماضي؟
نفعل أمرًا ونندم عليه، وتبدأ دائرة “لو لم أفعل كذا لما كان حصل كذا وكذا”، ما أبغضك يا “لو”! ألا تكفين عن التعليق في الماضي وهو فائت لا أمل لإعادته؟ فما قيمة الندب والتمني والحزن حينها؟
لن يشفق علينا الماضي مهما فعلنا، فيجدر بنا أن نرى لما بين أيدينا الآن، ونستعمله كما كنا نتمنى استعمال الماضي، وإلا سيكون مصيره كذلك البائد وسنستمر في هذه الدائرة البائسة دون سبيل للخروج منها. أحيانًا نضخم من أحوالنا مع أنه يوجد من هو أجدر منا بالحزن، بيْد أنّنا نجدهم لا يبدون ذلك، بل يتحملون ذلك، أليس نحن أوْلى منهم بتحمل ذلك؟
غالبًا ما نفكر في الماضي أو نقلق من المستقبل ولا ندرك حاضرنا، فمذ زمنٌ طويل لم ننظر لما حولنا ونرى ما يحدث جيدًا، تجري الأحداث ونحن نجري معها لنصل إلى المستقبل بسرعة، الآن: هدأ نفسك قليلًا، خذ نفسًا عميقًا، كرر ذلك مرة أخرى، أنظر لما يحيط بك، هل أنت حقًا هناك، أم جسمك فقط موجود وعقلك يترجرج بين الماضي والمستقبل، أنظر جيدًا، ما هو الشيء الذي تجلس عليه، ما لون الضوء من فوقك، ماذا ترتدي، ماذا تأكل، من الممكن أن تكون ظمآن، خذ كوبًا من الماء، تمعن جيدًا فيما يحدث من حولك الآن، لا تؤجل ذلك، تمعن الآن.
أحمد الله على النعم التي لديك الآن، فالآن ليس وقت الندم على نعمة فائتة، وإلا ستفوتك النعم الحالية، ألا يكفِ ما لديك الآن أن يسعدك؟
إذْ لم يكفِك فلن يكفيك شيئًا أبدًا، أبدًا. لعل عيش الحاضر أصبح صعبًا في هذا العصر السريع، بيْد أنّ من الأجدر أن نحاول العيش فيه، ففي ظل غيابنا عن اليوم أين نحن؟
تسارع الأحداث كالسيارة السريعة تحجب عنا رؤية ما يحيطنا وأبرزت لنا رؤية ما أمامنا فقط، مع هذا العمي عن واقعنا لا زلنا نفوت أشياء جميلة، أشياء تسعدنا أكثر مما نتخيل، أشياء أبسط مما نتوقع، غير أننا نبحث عن السعادة في الأشياء المعقدة والصعبة ونترك هذه البُسُط، ألا أننا نبحث عن المشقة لأنفسنا ومن ثم نشتكي؟ هل من عاقل يفعل ذلك؟
فالأشياء البسيطة كزراعة الزهور في الربيع، وشرب كوبًا من الحليب الساخن مع الشوكولاته الجميلة مع القليل من قطع البسكويت، وسماع زقزقة العصافير في الصباح، ورؤية شروق الشمس، وسماع دقات الساعة وهي تقول تيك تاك، وحمام دافئ جميل يجعل ذهنك في أصفى حال، والخروج للتسوق أو الخروج لنزهة على الشاطئ، تكتب نسيم البحر ذي الزجير، وتقرأه على كل مرير، بل تلك القراءة هي الابتسامة نفسها، والمشي بين الأشجار الجميلة الخضراء صباحًا والناس نيام، وهي تلوّح وترفرف بنسمة الهواء الهامِدة مُرحِبة بالمُرحَب، مُرحِبة بك أنت، وكأن النسائم والرياح تأتي كي ترفرف الأشجار لنا؛ لنرى جمالها وروائعها، ذلك الهدوء السائد بينها، وبين أوراقها؛ الذي يكاد يجعلك تسمع أفكارك، ومشاهدة مسلسك أو برنامجك المفضل مع كوب قهوة، واللعب مع الصغار أو شراء هدية لهم، ورؤية النجوم التي تتلألأ في السماء ليلًا، تختار منها المضيء وتقول: “هذه لي”، وتعدها إنك ستأتي لرؤيتها عن قريب، ومساعدة الناس والبعد عن الحقد والحسد والنوايا الذميمة، والحديث مع العائلة والأصدقاء، كل ذلك يبعثُ فينا سعادة أكبر من التي نتمناها، أليست السعادة بجانبنا تنادينا؟
عقلنا يتراجع عنا بمسافات طويلة، طويلة لدرجة أن يصل إلى مولدنا فيرتد حتى يبلغ سنوات لا نكاد نعيشها فيسبقُنا، لا يتوقف عن ذلك، عن تخويفنا بالمستقبل وجعلنا نفكر فيه وكأنه حاضرنا، لن تنفعنا كلمة “لا تقلق”، تقبل خوفنا وقلقنا أجدى من هروبنا منهما، إن نتقبل كل ما يأتي به القدر، لا داعٍ لخوفنا ما دمنا نتوكل على الله -سبحانه-، لا داعي ما دام ربنا معنا في كل وقت ومقر، فإذا مسنا الهم والزعج نلتجأ إليه وحده، وإذا أتى ما نخاف منه ندعوه هو وحده، وإذا انكشف عنا الشر نحمده على كشف الشر وحده، ألا أننا في مأمن تحت حماية رب الخلق وحده؟
فاللهم نعوذ بك من الهم والغم والحزن. ولنجعل أنفسنا أَمْرانٌ لا يكسرنا مهما حصل، لا أصلاب يكسرنا الضعيف الهزل. إن كان قلقك عن شيء عاشه غيرك، حاول الحصول على النصائح منهم فيه، ابحث عما حصل لغيرك، وغير وحاول إن كان بمقدورك ذلك، أما غيره الذي لا يد لك فيه، فهل سينفع أم يفيد فيه القلق؟
فهناك مُسير وهناك مُخير.
ألا زلت تقرأ كل تلك الكلمات المؤلمة؟
حسنًا، مهما كنت تفعل الآن؟ وفي الغالب تقرأ، قُم وعِش ما تريد، جرب ذلك الذي يقال بأنه مستحيل، تنفس بهدوء فقد أهلكت جسمك بهرولتك. تذكر بأن لديك أحلامًا وأهدافًا تسعى إليها، أحلام أكمَنَها الحزن، وقبل ذلك تذكر بأن لدينا جنة تريد السعي كي نبلغها، فعلينا أن نسعى سعيَها.
اضحك وابتسم وتذوق ما شئت، ففي النهاية الدراسة ستنتهي، وستحصل على المقابل من العمل، والهم سيزول، قُم من مكانك، انظر إلى الناس والمدن والأشجار والسماء والقمر، تأمل في الطبيعة، عُد لهواياتك التي تركتها منذ سنوات لا بد إنها اشتاقت إليك، مارس بعد التمارين الرياضية التي لا زلت تؤجلها يومًا بعد يوم، ضع تلك العلامات لإتمامك للمهام؛ فهي تزيد من سعادتنا أكثر وأكثر. لا ريب أن إخراج السعادة من أنفسنا يتطلب منا عزمًا وتغيرًا في أنفسنا، إذًا لنغيرها كي يتغير حالنا. تلك هي طبائعنا، الحزن والفرح من مشاعرنا، ولكننا نريد الفرح والبهجة والسرور؛ لأننا نريد الأفضل، وذلك أيضًا من طبائعنا، “لدي الأخضر واليابس” أرض الحياة تقول، ونحن نتذبذب بين تلك الفصول.
ستتبدل الأحوال، ويصبح اليابس أخضرًا، وتزدهر الحياة، وستأتي تلك الأجواء المفعمة بالفرح، سنصل بسعينا إلى أحلام كنا نتمناها، لم نتخيل أننا سنصلها أبدًا، تلك الأيام ستبقى كالنور في ذاكرتنا، وكأن شمسها غير شمس غيرها، سترن السعادة بعد حزن كالتنوين في آخر الكلمة، وستمر لا خيار آخر لها. ستأتي وتهب كنسيم البحر، ستأتي وتسمع أصواتها وهي تقهقه كالعصفور وهو يغرد ويزقزق، ستأتي كشروق شمس على كهف مُعسعس، وأنت البحر والعصفور والشمس والمُسبِب، منك النسيم والتغريد والشروق والمُسبَب.
وتذكر أن التنوين في آخر الكلمة وليس آخر الجملة، فلا زال يوجد كلمات بعدها، ولا زال يوجد تنوين، سيستمر ذلك إلى آخر الجملة وتنتهي بالسكون، والموت هو السكون.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أكثروا ذكر هاذم اللذات؛ فما ذكره عبد قط وهو في ضيق، إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعة، إلا ضيقه عليه».
هاذم اللذات أي الموت.